قبل أن نتاول المزيد من الأدلة القرآنية على ثبوت النسخ .. لنا استدراكان هآمان على مقالنا السابق حول النسخ وهما :
أولا : أن تفسير الدكتور لقوله تعالى ( ننسها ) أى نمحها .. لايتصور حدوثه مع الآيات الحسية التى أيد الله بها أنبياءه كقلب عصا موسى إلى حية تسعى ، أو احياء عيسى لبعض الموتى .. ليست بحآجة أصلا إلى الإبطال والإزالة ولا هى بحآجة إلى النسيان والمحو من الواقع .. لأنها انتهت بالفعل ولاأثر لها على الإطلاق .. سواء قبل نزول القرآن الكريم أو بعد نزوله .. وبالتالى فأى فائدة تذكر لأن ينسى أو يمحو الله عزوجل من حياة الناس مالاأثر له أصلا من الآيات الحسية وحاشا لله أن يفعل مافائدة منه ولاطائل من ورائه !!
ثانيا : يقول الله عزوجل { أو مثلها } .. والآيات الحسية التى أيد الله بها الأنبياء لايمكن أبدا أن تكون ( مثل ) القرآن الكريم بحال من الأحوال .. وبالتالى يصبح معنى قول الله عزوجل { أو نأت بمثلها } - وفقا لتفسير الدكتور - أن الله عزوجل سيأتى للنبى صلى الله عليه وسلم بآيات حسية ( مثل ) الآيات والمعجزات التى وقعت لموسى وعيسى وغيرهما من أنبياء الله وبذلك يثبت الدكتور ماقاتل من أجل نفيه !!
وعليه .. فإن فعلا الشرط ( ننسخ ) و ( ننسى ) لايتصور وقوعهما إلا على النصوص المكتوبة أو المحفوظة فى الذاكرة وماشابه ذلك !!
ثم يحاول الدكتور صبحى أن يؤكد هذا التفسير الخاطىء .. بتفسير خاطىء آخر لقوله تعالى : { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لايعلمون } النحل 101 .. فيقول : (( فالله تعالى أبدلهم بالآيات الحسية آية عقلية هى القرآن ولكنهم اتهموا محمدا بالإفتراء )) وخطأ الدكتور يتمثل هنا فى عدة أمور :
أولا : أن قوله تعالى { بدلنا آية مكان آية } .. لايمكن أن يكون المقصود منها تبديل آية القرآن مكان الآيات الحسية .. إذ أن تلك الآيات الحسية كما قلنا لم يكن لها أى وجود ولا أثر يراه الناس أو يحسونه حين أنزل الله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم .. والتبديل يستلزم إزالة شىء وإحلال شىء مكانه ، والآيات الحسية كما قلنا تزول ساعة وقوعها .. فأى معجزة حسية كانت موجودة زمن النبوة .. ليأتى القرآن ويحل محلها ؟؟
ثانيا : تناسى الدكتور صبحى آية أخرى .. مع أن الإستدلال بها فى هذا الموضع من البحث مهم جدا والتغافل عنها لايمكن أن يتصور وقوعه سهوا من الدكتور .. لأنها تحسم معنى النسخ فى الآيات السابقة ، ولاتخدم فكرة الدكتور ، وهى قوله تعالى فى سورة يونس { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لايرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل مايكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى ، إن أتبع إلا مايوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } { قل لو شاء الله ماتلوته عليكم ولاأدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفــلا تعقلون } الآيه 15 و16
فالواضح الصريح القاطع من هاتين الآيتين الكريمتين أن كفار مكة طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يأت لهم بـ ( قرآن آخر ) أو ( يبدل آياته حسب أهوائهم ) .. قيل أنهم طلبوا تحويل الوعد وعيدا والوعيد وعدا ، والحلال حراما والحرام حلالا .. وقيل أنهم سألوه أن يحذف من القرآن أى عيب لآلهتهم وتسفيه أحلامهم .. وقيل سألوه اسقاط مافيه من البعث والنشور .. والمهم أنهم بصريح الآية الكريمة سألوه أن يبدل القرآن بقرآن آخر .. وإن كان هذا لاينفى طلبهم آيات حسية فى مواضع أخرى .. لكن لم تقترن بلفظ التبديل والتغيير كما هو الحال هنا .. فكان جواب النبى صلى الله عليه وسلم أنه لايأتى بالناسخ من القرآن من تلقاء نفســـه وإنما هو محكوم دائما بوحى الله !!
والأهم من ذلك كله .. فإن اثبات النسخ أو نفيه .. أو تحديد معناه .. ينبغى أن يكون من خلال التفاصيل و البحث العملى فى آيات القرآن الكريم .. التى يقع بينها تعارض ظاهرى .. فإن أمكن التوفيق بينها لم يكن ثمة داع للقول بالنسخ .. كما هو مذهب السلف !!
وقد ذكرنا فى المقال السابق مثالا واضحا جليا صريحا على وقوع النسخ فى القرآن الكريم بمعنى التبديل والتغيير والرفع .. وهو نسخ التوجه إلى بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة .. واليوم نذكر مثالا آخر على وقوع النسخ فى القرآن الكريم .. وهو نسخ تحريم الأكل والشراب والجماع بعد النوم فى شهر رمضان .. وإباحة ذلك .. يقول الله عزوجل { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسهم فتاب عليكم وعفا عنكم } الآية 187.. فالنسخ هنا واضح جلي لاسبيل لإنكاره !!
وهنا أيضا نكرر نفس التحدى الذى سبق وأن واجهنا به الدكتور صبحى والذين معه منفردين أو مجتمعين .. والسؤال هو : هل كان صيام المسلمين أولا بالإمتناع عن الطعام والشراب والجماع بمجرد النوم بناء على وحى من الله عزوجل أم بناء على وحى من الشيطان ؟؟
فإن قلتم بل بوحى من الله تعالى .. سألناكم وأين هى إذن تلك الآية القرآنية التى تأمر المسلمين بتحريم الأكل والشرب والجماع بمجرد النوم ؟؟ هل نسخت تلاوتها وحكمها ؟؟ فإن قلتم نعم .. فقد نقضتم قضيتكم كلها حول انكار النسخ ؟؟
وإن قلتم بل كانت بوحى خآص للنبى صلى الله عليه وسلم .. نقضتم دعواكم التى روجتم لها كثيرا بعدم وجود وحى آخر غير الوحى القرآنى ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ فقط ؟؟
فإن قلتم بأن المسلمين كانوا يتعبدون بشرع من كان قبلنا .. والدليل قوله تعالى { كتب عليكم االصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .. قلنا إن صيام من كان قبلنا لايكون بالإمتناع الكلى عن الطعام والشراب وإنما عن بعض الطعام والشراب الحيوانى .. وهو ما لم يحدث مع المسلمين أبدا .. ثم لو سلمنا جدلا بكلامكم .. فإن مجرد استدلالكم بالآية { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } .. على أنها تمثل الصورة الأولى للصيام والتى ألغتها الآية الأخرى التى أباحت ماكان محرما .. كان هذا اعترافا صريحا منكم بوقوع النسخ الذى هو بمعنى التبديل والتغيير ؟؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
بقلم : محمد شعبان الموجى
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق