الإسلام السياسى خصوصية خاطئة .. ( 6 ) !!





^ يعترف الدكتور سليم العوا فى حديث أجرته معه جريدة الأحرار منذ عدة سنوات بأن الذين يصوتون لصالح التيار الإسلامى لايصوتون إلا لمصالحهم ؟؟ وأن القضية إذن هى ( البرنامج النافع والبرنامج غير النافع ) ؟؟ إذا نجحوا فى تنفيذه سيستمرون فى مواقعهم بالنجاح الحر ، وإذا أخفقوا سيسقطون ) !! 

ومع أن الدكتور سليم العوا يعد اليوم من كبار المفكرين فى الحركة الإسلامية .. إلا أنه للأسف الشديد لم يدرك أن مثل هذا الكلام ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب .. ولم يدرك كذلك مدى خطورة هذا الطرح على مفهوم التدين عند الناس ولا مدى جنايته على الدين نفسه وعلى فلسفة العقيدة الإسلامية ذاتها .. كيف ؟؟ 

^ لاشك بداية أن قيام الفرد المسلم أو الجماعة بتنفيذ برامج نافعة أمر قد ندب إليه الإسلام وحث القرآن الكريم صراحة على ضرورة القيام به مصداقا لقوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان } إلى جانب العديد من الآيات القرآنية الكريمة التى رتبت على القيام بتلك البرامج النافعة الثواب الأخروى .. طبعا بشرط الإخلاص فى النية .. وموافقة تلك البرامج للشرع الحنيف .. ولاشك كذلك أن القيام بتنفيذ تلك البرامج النافعة ضرورة حياتية عند شائر الشعوب والأمم .. نرى مثلها فى مجتمعات بوذية أو يهودية أو نصرانية أو ملحدة .. وربما بدرجة أكبر نتيجة لفارق الإمكانيات وللوعى الإجتماعى فى الأمم المتقدمة !! 

^ لكن الخطأ كل الخطأ .. أن نتقدم للناس بالإسلام عن طريق معارض سلع معمرة أو شاليهات على الساحل الغربى أو عن طريق نظام طبى منخفض التكاليف إلى آخره .. بحيث تصير تلك البرامج النافعة هى الباعث أو الشرط أو الحيثية الأساسية للإلتحاق بكتيبة أهل الإيمان ، وبحزب الله وإقامة الدين وبناء علاقة حب وذل لله ، وترسيخ الإيمان بالآخرة والزهد فى زينة الحياة الدنيا !! 

إن هذا الخطأ الجوهرى فى خطة الدعوة .. سيحول الناس تلقائيا وبدون أن ندرى إلى ( مؤلفة قلوبهم ) .. سيصير الإسلام مذهبا دنيويا نفعيا .. { إن اعطوا منها رضو ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } .. يختفى المطلوب القرآنى المباشر ، ويحل محله مطلوبات غير مباشرة أو كما يقول وحيد الدين خآن : (( يبرز هذا الدين بوصفه نظاما دنيويا يروزا عظيما فى خريطة هذا التفسير ، ويصبح جانبه الحقيقى - مراقبة الله وخشيته - فى غآية الضعف والإهمال ؟!! ) 

^ إن جماعات الإسلام السياسى لم تعد قادرة للأسف الشديد - بعد تبنى السياسة النفعية أو البرامج النافعة كحيثية أساسية - على تقديم جوهر الدين وحقيقة اليوم الآخر كحقيقة مطلقة كما جاءت على لسان الرسل والأنبياء عليهم السلام .. لقد علمنا القرآن الكريم أن الإيمان والإلتزام بتلك العقيدة يجب ألا يتوقف على أى نفع مادى وإلا صار إيمانا زائفا لاقيمة له .. إن الإيمان بالله حقيقة مطلقة وقيمة ذاتية .. قد يصحبه خير ومنافع دنيوية .. لكنه فى الوقت ذاته قد يجر على المؤمن الكثير والكثير من الفتن والمتاعب والإبتلاءات .. بل هذا هو الراجح !! 

^ ثم لنفرض أن ثمة جماعة يهودية أو نصرانية أو بوذية أو شيوعية أو علمانية نافست التيار الإسلامى فى النقابات والأحزاب والجامعات والهيئات والمؤسسات فى تقديم خدمات طبيه أفضل وأرخص .. أو شاليهات أوسع و أرخص وأقرب إلى الشاطىء أو قدمت لهم تخفيضات أكثر للسلع المعمرة .. فهل معنى ذلك ووفقا لماذهب إليه الدكتور العوا وجماعات الإسلام السياسى أن ينصرف الناس عن الإسلام ليصبحوا نصارى أو يهود أو مجوس أو شيوعيين أو علمانيين !! 

^ نفس الشىء ينطبق على الدعوة الفكرية الخاطئة والتى يتبناها الأستاذ فهمى هويدى وسليم العوا وأبو المجد وغيرهم .. حينما يقدموا الإسلام للناس على أنه ( مشروع حضارى ) ؟؟؟ أو ( مجتمع مدنى تمدينى ) ؟؟ 

^ وليس خطأ أن ينجح المسلمون فى وقت ما وفى مكان ما .. فى تحقيق حضارة مادية و تقدم علمى فى سائر المجالات على أسس إسلامية ، أو تنظيم مجتمع إسلامى على أسس مدنية بحيث تحكمه المؤسسات المختلفة التى تحول بينه وبين الظلم والبطش والإستبداد .. كل ذلك جميل وعظيم و مثلهم فى ذلك مثل كآفة الأمم والشعوب الأخرى !! 

^ لكن تقديم الإسلام للناس على أنه فى الأصل وفى المطلوب القرآنى المباشر ( مشروع حضارى ) ، وعلى اعتبار أن هذا المشروع الحضارى أو ذلك المجتمع المدنى هو الحيثية الأساسية للدين .. وهو الحيثية المفسرة والمهيمنة على كل أجزاء الدين .. فهذا هو الخطأ بعينه !! 

الحيثية الأساسية للدين والتى لن نمل من تكرارها .. هى إقامة علاقة نفسية مباشرة مع الله ، وترسيخ مفاهيم الآخرة والإنخلاع من زينة الحياة الدنيا .. أما إقامة ( المشروع الحضارى ) ، و( المجتمع المدنى ) فكما قلنا حيثيات إضافية .. قد تتحقق فى دنيا المسلمين .. وقد تختفى لأسباب خارجة عن إرادة أهل الإيمان .. ومع اختفائها فإن ذلك يجب ألا يؤثر على حقيقة ايمان المؤمنين وعلى ضرورة القيام بواجب الدعوة إلى الله .. أما رفع ( المجتمع المدنى ) و ( المشروع الحضارى ) أو تقديم برامج دنيوية نافعة كحيثية أساسية للدخول فى دين الله أو الإلتزام بمظاهره الخارجية .. فهذا من شأنه أن يكرس مفاهيم حب الدنيا والعمل من أجلها وحدها والتعامل مع العباد بالفلسفة النفعية .. ومن شأنه كذلك أن يصرف الناس عن معايشة عقيدة اليوم الآخر .. ومخالفة حقائق القرآن الكريم التى تؤكد على أن الدنيا متاع الغرور ، وحقائق السنة التى تنص على أن الدنيا دار من لادار له ولها يجمع من لاعقل له .. وتجعل من الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا .. وتصبح مثل تلك النصوص لاقيمة لها فى حياة المسلمين لاسيما أمام العروض المغرية لإمتلاك شاليه على الساحل الغربى أو امتلاك ثلاجة أو بوتاجاز أو شقة بنظام المرابحة ؟؟ 

^ والمدهش حقا أنه فى الوقت الذى يحدثنا فيه مفكرو الإسلام السياسى عن المشروع الحضارى الإسلامى الذى سيقف فى وجه المشروع الحضارى الغربى .. ان الشيخ والمفكر العظيم سيد قطب رحمه الله .. يستبعد أن يحدث مثل هذا المشروع الحضارى بالمعنى النفعى الذى يتحدث به مفكرو الإسلام السياسى ولعدة قرون قادمة .. ويستنكر أن يكون هذا المشروع الحضارى هو المؤهل الأساسى لدعوة الناس إلى طريق الله .. حيث يقول (( إن هذه الأمة لا تملك الآن - وليس مطلوبا منها ؟؟؟ - أن تقدم للبشرية تفوقا خارقا فى الإبداع المادى يحنى لها الرقاب ، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية ... فالعبقرية الأوربية قد سبقته فى هذا المضمار سبقا واسعا .. وليس من المنتظر - خلال عدة قرون على الأقل - التفوق المادى عليها ؟؟ فلا بد إذن من مؤهل آخر ؟؟ المؤهل الذى تفتقده هذه الحضارة ؟؟ ولن يكون هذا المؤهل سوى ( العقيدة ) و ( المنهج ) الذى يسمح للبشرية أن تحتفظ بنتاج عبقريتها المادية ؟؟ )) 

^ والأمر بالنسبة لجماعات الإسلام السياسى لم يقف عند حد عرض الإسلام على الناس من خلال البرامج النافعة أو النفعية فحسب .. بل انعكست تلك الفلسفة النفعية الدنيوية على أركان الإسلام وعلى المؤسسات الإسلامية ذاتها ؟؟ 

فالمسجد تحول فى ظل هذا التفكير إلى دارللتعليم المدنى وللدروس الخصوصية .. وإلى ساحة لتدريب جنود النظام كما هو الحال عند الجماعات المسلحة .. وتحولت خطبة الجمعة إلى برلمان لحل المشاكل السياسية والإقتصادية ومناقشة القضايا المطروحة على الساحة .. وهذا بالطبع ليس خطأ .. بل هو من الأمور المستحبة والواجبة .. ولكن الخطأ الجوهرى العظيم هو اختفاء ( الحيثية الأساسية ) للمسجد ولخطبة الجمعة ، وبروز الحيثيات الإضافية يروزا عظيما .. اختفى المطلوب المباشر الذى ورد صراحة فى القرآن فى قوله تعالى : { فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه .. يسبح له فيها بالغدو والآصال .. رجال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار } النور 36 / 37 

وكان لذلك أثره المدمر وجنايته العظيمة على التدين فى نفوس الناس .. حتى صار الناس يرون أن المسجد الذى لايمارس فيه أنشطة سياسية أو اجتماعية أو رياضية .. مسجد عديم الفائدة .. وفى الأمثال الشعبية أن رجلا يبدو أنه كان جائعا ولم فى المسجد طعاما يطعمه .. فإذا به يقول للأمام .. جامع بلا عيش بنى ليش .. فقال له الإمام بنى للصلاة ياقليل الحيا .. فقال له السائل : الصلاة تجوز فى الخلا .. انهد الجامع على اللى بنى .. وهكذا تحولت رسالة المسجد الأساسية فى نظر هذا السائل إلى مخبز أو مطعم .. ولم يتصور أن مسجدا يخلو من الخبز .. وصار الناس اليوم يملون من سماع الخطيب الذى يحدثهم عن عذاب القبر وعن اليوم الآخر وعن الإيمان بالله .. لأنه كان يجب أن يحدثهم أولا عن الأخوة فى أفغانستان وفى البوسنة والهرسك .. وأصبح مثل هذا الخطيب مثار للسخرية والإستهزاء والتندر والتفكه من جانب المتنورين من أرباب القلم !! 

وصلاة العيدين فى الخلاء سنة مؤكدة .. الهدف منها فى المطلوب المباشر .. التذكير باليوم الآخر وأحوال وأهوال يوم القيامة .. ولذلك فمن السنة قراءة سورتى الغاشية والأ‘لى لهذا الغرض .. لكنها فى ظل ظاهرة الإسلام السياسى صارت أداة للتعبئة السياسية ضد الأنظمة الحاكمة .. ولأستعراض القوة .. قوة الجماعات .. وللحديث عن المشاكل السياسية الخارجية والداخلية .. ولابأس من ذلك بل هو مطلوب .. ولكنه مطلوب إضافى غير مباشر .. لكن المشكلة فى اختفاء المطلوب المباشر حتى صار من الصعب القول اليوم أن الناس يتذكرون اليوم الآخر فى ذلك اليوم .. ولقد فطتنت الحكومة إلى أهداف الجماعات من الصلاة فى الخلاء فتبنت تنظيم تلك المسألة بما يفوت على الجماعات أهدافها !! 

^ والحج إلى بيت الله الحرام .. بدلا من أن يكون رحلة ينقطع فيها العبد عن الأهل والمال والبلد والولد .. وبدلا من استلهام معانى العبودية المحضة من أداء مناسك لاتظهر حكمتها كاملة فى الدنيا .. مثل تقبيل حجر ورجم حجر .. وبدلا من استلهام معانى الحشر والنشر والبعث من منسك الوقوف بعرفة إلى آخر تلك المعانى التى ترسخ مفاهيم ( التنزه عن الشهوات والكف عن الملذات والإقتصار على الضرورات فيها ، والتجرد لله سبحانه وتعالى فى جميع الحركات والسكنات كما يقول حجة الإسلام الغزالى رحمه الله .. بدلا من هذا كله تحول الحج وفقا لمفاهيم الإسلام السياسى ورواد المشروع الحضارى .. إلى مؤتمر سياسى عالمى .. مع أن أى حاج يعلم علم اليقين أن ممارسة السياسة فى أثناء الحج شىء شبه مستحيل .. كما أنه يتعارض مع قوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج } فهل هناك مؤتمر سياسى يخلو من الجدل ؟؟ 

^ ليس هذا فحسب .. بل تحول أهل الدعوة أو المخاطبين بالدعوة فى ظل هذا ( الإسلام السياسى ) أوالمشروع الحضارى .. إلى هدف انتخابى بدلا من كونهم هدفا للهداية .. أو كما يقول وحيد الدين خآن (( المتأثرون بهذا التفسير ينظرون إلى مخاطبيهم بمنظار أصحاب المنظمات السياسية والإقتصادية الأخرى .. فيهتمون بالتأثير على الرأى العآم واستقطاب الأنصار .. أكثر من اهتمامهم بهداية الناس إلى الصراط المستقيم ، وغآيتهم فى ذلك .. الفوز بأكبر قدر من الأصوات فى هذا العصر الديمقراطى ، وبهذا يكون المسلم وغير المسلم فى نظرهم سواء )) !! 

^ وتحضرنى هنا قصة لها مغزاها العظيم فى هذا السياق .. قصة الأعمى الذى ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمه شيئا من القرآن الكريم .. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغولا باجتماع سياسى مع كبار القوم .. أملا فى كسب أصواتهم لصالح الإسلام .. فجاء العتاب الإلهى الرقيق ليعيد الأمور إلى نصابها .. ويفرض على النبى صلى الله عليه وسلم أن يقطع هذه المباحثات السياسية عالية المستوى فورا .. وأن يتفرغ لتعليم هذا الأعمى الذى لايمثل فى ميزان أهل السياسة أى قيمة .. ترى لو تكررت هذه الواقعة اليوم مع قادة الإسلام السياسى اليوم وهم فى طريقهم إلى عقد مؤتمر فى الهيلتون أو الشيراتون ماذا سيكون تصرفهم حينئذ !! 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، 






بقلم : محمد شعبان الموجى
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق


الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *