الإسلام السياسى .. خصوصية خاطئة ( 5 )
بقلم : محمد شعبان الموجي
^ ناقشنا فى المقال السابق وجه الإستدلال الخاطىء بالقاعدة الفقهية الشهيرة التى تنص على أنه (( مالايتم به الواجب فهو واجب )) أو (( تحصيل الواجب واجب )) .. على حتمية إقامة الحكومة المؤمنة وإقالة الحكومة الكافرة أو الفاجرة .. وانتهينا إلى أن واجب إقامة الدولة أو الحكومة المؤمنة من الواجبات الشرعية المقيدة التى ربطها الله سبحانه وتعالى بأسباب موجبة لها وبشروط تحققها ، وأن ثمة موانع إن وجدت زال أثر هذه الأسباب الموجبة لها .. فنحن قبل الإقدام على أداء أى واجب شرعى مقيد .. لابد أولا من النظر الشرعى فى أسبابه الموجبة له وفى شروطه التى لايتحقق إلا بها وفى الموانع التى قد تحول دون القيام به .. فإذا وجد السبب وتحقق الشرط وزال المانع .. ترتب على الفعل الأثر الشرعى ، والتكليف الذى ارتبط به .. وبدون الدخول فى تفاصيل أصولية أكثر .. فإننا نحاول هنا بتلك القواعد الأصولية الموجزة تأصيل مسألة إقامة الدولة الإسلامية أو احياء الخلافة أو إقالة الحكومة الكافرة أو الفاجرة وإقامة الحكومة المؤمنة .. فنقول وبالله التوفيق .. إن قيام الحكومة الإسلامية واجب شرعى وفقا للقاعدة التى ذكرناها ( مالايتم الواجب إلا به فهو واجب ) ، فلا شك أن ثمة واجبات شرعية كثيرة تتوقف فى أدائها وتنفيذها على قيام الحكومة المؤمنة .. ولكن ذلك الواجب - أى واجب إقامة الحكومة المؤمنة - واجب مقيد كما ذكرنا من قبل .. بمعنى أن له ( سبب ) جعله الشارع أمارة وعلامة على وجود ذلك الحكم بوجوب إقامة الحكومة وتنصيب الخليفة .. وله شرط يتوقف عليه وجود ذلك الحكم .. أما السبب أو الأمارة الشرعية التى توجب على المؤمنين القيام بواجب إقامة الحكومة المؤمنة .. فهو ظهور مجتمع إيمانى على أرض الواقع .. يكون نتاج وتكليل لجهود المخلصين والربانيين من الدعاة إلى الإسلام .. .. وهذا السبب الشرعى الدال على وجوب قيام المسلمين بإقامة الحكومة المؤمنة .. من الأسباب التى ليست من فعل المكلف .. بل هى منحة ربانية يكافىء بها الله عباده المخلصين الذين تحققت فيهم صفات أهل الإيمان والربانيين ، الذين تغلبوا على شهوات نفوسهم ونجحوا فى ترك زينة الحياة الدنيا والتعلق بعلوم الآخرة .. ثم إن وجود مثل ذلك السبب وحده لايكفى لقيام دولة الخلافة الراشدة .. بل يشترط عند ظهور ذلك المجتمع شرطان .. الحرية والعدالة .. أى لابد أن يتمتع ذلك المجتمع الإيمانى أولا بإرادة اجتماعية حرة فى الإلتزام الطوعى بأحكام الدين وتصوراته وقيمه ومبادئه .. وأن يمتلك كذلك حريته فى اختيار حكامه ونخبته ودستوره وشرائعه .. وثانيا أن تكون النواة الإساسية لذلك المجتمع - أو نخبة المجتمع - نخبة إيمانية .. تعرف ربها حق المعرفة .. صادقة فى علاقتها مع الله وزهدها الحقيقى فى الحياة الدنيا و تعلقها بمفاهيم الآخرة وبعلوم الدين الحقيقية والمطلوبات القرآنية المباشرة !! .. فإذا لم يظهر هذا السبب الشرعى ( خلق مجتمع إسلامى ) يرجو الله ويرجو اليوم الآخر .. أو وجد ولكن لم يتوافر له شرط الحرية أو شرط العدالة .. فإن أهل الإيمان حينئذ (( يجب أن يتوجهوا نحو الإنذار والتبشير لا إقامة الإمامة ، وإلى الصبر على المشاق التى تعترضهم ، وهم يؤدون هذه المهمة الدعوية ، فإذا فعلوا ذلك فسوف يكون النصر حليفهم ، كما وعدهم الله ، كما أن الله يخلق لهم ظروفا تبلغ بهم إلى التمكين والسلطة لنصر دين الله ومفاهيم اليوم الآخر )).. حينئذ سيكون النصر والتمكين و الوصول إلى السلطة أو إقامة الحكومة المؤمنة ( منحة إلهية ) .. وليس نظاما هدفه الأساسى الحياة الدنيا التى لم يذكرها الله فى كتابه الكريم إلا فى موضع ذم .. ويكون نظام خلافة راشدة .. يكرس مفاهيم الله والآخرة وينطبق عليه قول الحق جل فى علاه (( الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر )) !!
شمولية الإسلام !!
^ ثم نأتى إلى مناقشة ثانى مرتكز فكرى لجماعات الإسلام السياسى .. يستدلون به على رفع السياسة من كونها مظهرا خارجيا من مظاهر الدين .. إلى جعلها هى عين الدين وجوهره والحيثية المفسرة والمهيمنة على كل أجزائه .. فالإسلام دولة ووطن أو حكومة وأمة .. أو دين ودولة !!
^ وشمولية الإسلام .. حق لايمارى فيه إلا كافر أو زنديق .. لكننا فى الغالب لاندرك أن الإيــــمان بشمولية الإسلام وحده لايعنى بالضرورة أن تصورنا لتلك الشمولية صحيح .. لماذا ؟؟
يقول وحيد الدين خآن : (( إن جمع أجزاء متفرقة فى مجموعة فكرية مفهومه .. دليل فحسب على أن تلك الأفكار كانت أجزاء حقيقة ما ، لكن الإحتمال يبقى قائما بشدة ألا يكون ترتيب تلك المجموعة فى حد ذاته حقيقيا .. فالأجزاء كلها حــــــــقيقية .. أمــــا أسلوب جمعها فهو من معجزات العقل الذى قام بذلك الجمع لا أكثر )) !!
معنى ذلك أن شمولية الإسلام تفتقر إلى ترتيب صحيح يجمع بين أجزاء البناء الإسلامى كدين وشريعة ، وكعقيدة وعبادة ومعاملة .. فالبناء الإسلامى له شكل معمارى محدد .. لايجوز بحال من الأحوال هدمه أو القفز عليه أو إعادة تشكيله من جديد .. حتى وإن اشتمل على كآفة الأركان والفرائض والأصول والفروع .. ولذلك يضرب لنا وحيد الدين خآن مثلا على ذلك حيث يقول : (( يمكننا أن نتصور علاقة تلك الصورة بالدين الحقيقى .. بأن نهدم بيتا ثم نستخدم طوبه وأحجاره وخشبه وحديده فى تشييد بيت جديد فى ضوء تخطيط معمارى يختلف عن تخطيط البيت القديم .. فبالرغم من أن البيت سوف يحتوى على ماكان يحتويه البيت القديم من مواد البناء .. إلا أنه سيمثل صورة معمارية مغايرة للصورة القديمة )) !!
^ ولذلك .. يجد معارضو الإسلام السياسى صعوبة حقيقية فى معارضة حقيقية لأفكار جماعات الإسلام السياسى .. حتى أن مساعدا سابقا لوزير الداخلية هو الدكتور ابراهيم بهاء الدين صرح ذات يوم أن أكثر من تسعين فى المآئة من أفكار الجماعات المتطرفة صحيحة .. وأن الخطأ فقط فى أسلوب تنفيذها .. وبالمثل فإنك لو قرأت لواحد من أشد الناس خصومة وعداء لجماعات الإسلام السياسى مثل الدكتور رفعت السعيد فالعجب أنك لاتكاد تزفر فى مقالاته بخطأ فكرى أوشرعى واحد من بين كل تلك المقالات .. فلا هم ابتدعوا بدعة فى الدين .. ولا هم انتقصوا منه شيئا .. فأجزاء الدين وأصوله وفروعه موجودة بالكامل فى تفسير جماعات الإسلام السياسى للدين .. ولكن الخطأ الذى كشفه وحيد الدين خآن .. يكمن كما قلنا فى تغيير معمارية البناء الإسلامى الذى يعبر عن ( الفلسفة الحقيقية للدين ) أو ( الحكمة الإلهية الجامعة لأجزائه ) .. والذى يتم على أساسها تفسير الدين !!
ولنا أن نتصور مقدار الخطأ أو التشويه أو الإنحراف الحاصل من جراء العبث بهذا التصميم المعمارى للدين أو بفلسفة البناء الدينى .. والذى قد يؤدى بنا فى نهاية المطاف إلى إقامة بناء غامض المعالم .. مخيف ومرعب .. كبيت الأشباح أو كبيت جحا .. لايهتدى فيه الإنسان إلى الهدف الذى من أجله أنزله الله وأرسل أنبيائه ورسله عليهم السلام لهداية البشر والدعوة إلى ترسيخ مفاهيم الله والآخرة .. رغم وجود كل أجزاء الدين فى هذا التفسير كما قلنا !!
^ إن بناء الإسلام لايقوم إلا على تربة قوامها الإيمان بالله والـعلاقة النفسية المباشرة مع الله والتى تحكم العبد فى كل حركاته وسكناته .. وأساس هذا البناء وأركانه الصلاة والصوم والزكاة والحج .. وبناؤه المعاملات والتصورات والقيم والسلوكيات والأخلاق .. والتشريعيات .. وحراس هذا البناء .. السياسة والجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. ولذلك فقد ذكرنا فى المقال السابق أن وظيفة السياسة المنوطة بها نحو الدين هى حراسته من من التبديل فيه وزجر من شذ عنه بارتداد أو بغى فيه بفساد .. وهكذا يمكن القول بأن جماعات الإسلام السياسى قد خلطت بين وظيفة الحارس وبين العمل داخل البناء ذاته .. ولذلك فلا عجب أن تتغير اليوم صورة الجهاد إلى بعض صور البلطجة والقتل والإجرام ، وأن يقف كثير من المجاهدين باسم الإسلام حراسا على خرابات فكرية ودينية منحرفة منتسبة إلى الإسلام ، وعلى معالم بناء يزعمون أنه إسلامى .. على النحو الذى نراه الآن فى أفغانستان !!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بقلم : محمد شعبان الموجى
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق