دفاعا عن أبي حنيفة رضي الله عنه




بداية أحيي أخونا صبرى الأشوح على غيرته الدينية التى دفعته إلى كتابة ما كتبه تحت عنوان (( نصر أبو زيد مرتد )) .. غير أن مقاله هذا قد انطوى على عدة أخطاء تاريخية وفقهية وشرعية وأخلاقية .. ربما لاتبقى من المقال كله سوى حسن النية ودماثة الأخلاق والأسلوب المهذب لكاتبه .. وهذه الأخطاء منها ما يتعلق بالإمام أبى حنيفة النعمان رضى الله وهو موضوع مقال اليوم ، ومنها ما يتعلق بحكم ردة د. نصر أبوزيد وله مقال آخر إن أذن الرحمن (..)

أولا : لقد تناول الأخ صبرى سيرة الإمام أبى حنيفة النعمان .. تلك العقلية الفقهية الجبارة .. من خلال مقالات تاريخية وافتراءات فقهية خاطئة روج لها أعداء الإمام وحاسدوه .. كتلك التى كتبها الحافظ ابن حبان والتى خصص لها كتابين منفردين فى ذكر مثالبه .. كل كتاب منهما يشتمل على عشرة أجزاء .. بل وعقد له أطول ترجمة فى كتابه المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين وقد رماه بالإرجاء والدعوة إليه والأخذ بالرأى وإطراح الأحاديث .. وكلها افتراءات وأكاذيب يعرفها كل من له أدنى علاقة بالفقه الحنفى كما تحط من شأن ابن حبان مع جلالة قدره فلا يكاد يذكر إلا ويذكر معه تحامله الشديد على أبى حنيفة رحمه الله .. لقد شهدت الدنيا كلها والتاريخ لتلك العقلية الفقهية الجبارة السابقة لعصرها .. مما دفع بالإمام الشافعى ناصر السنة إلى أن يقول قولته المشهورة التى خلدها التاريخ : (( الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة )) ، وقد علق عليها الإمام الذهبى صاحب كتاب سير النبلاء بقوله (( قلت : الإمامة فى الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام ، وهذا أمر لاشك فيه )) ثم ذكر هذا البيت من الشعر .. وليس يصح فى الأذهان شىء .. إذا احتاج النهار إلى دليل .. ويكفينا قول إمام الأئمة عبد الله بن المبارك : أبو حنيفة أفقه الناس .. بل قال أنه أفقه من مالك .. وقد حسم الإمام الخريبى القضية فى قوله ونعم ماقال : مايقع فى أبى حنيفة إلا حاسد أو جاهل .. وهذه شهادة إمام جليل من أكابر أئمة الجرح والتعديل وهو يحيي بن سعيد القطان حيث يقول فى حق الإمام أبى حنيفة : لانـكذب الله ، ماسمعنا أحسن من رأى أبى حنيفة وقد أخذنا بأكثر أقواله .. وماقيل فى الشهادة لأبى حنيفة أشهر من أن يذكر وأكثر من أن يحصى (..)

لكننا نود أن ننبه أخونا صبرى الأشوح وغيره ممن يستشكل عليهم مثل تلك الأقوال المتحاملة التى يتبادلها بعض السلف .. ننبهه وغيره إلى قاعدة مهمة للغآية .. نبه عليها الإمام السبكى فى ( طبقات الشافعية ) : وهى أن .. ثابت العدالة لايلتفت فيه إلى قول من تشهد القرائن بأنه متحامل عليه إما لتعصب مذهبي أو غيره .. فإن من ثبتت عدالته وصحت فى العلم إمامته وبالعلم عنايته لم يلتفت إلى قول أحد إلا أن يأتى فى جرحه ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات واستدل رحمه الله بأن السلف تكلم بعضهم فى بعض بكلام منه ماحمل عليه التعصب أو الحسد ومنه مادعا إليه التأويل واختلاف الإجتهاد مما لايلزم المقول فيه ماقال القائل فيه وقد حمل بعضهم على بعض السيف تأويلا واجتهادا .. وإذا قبلنا مثلا كلام ابن حبان فى أبى حنيفة مع أنه ظاهر التحامل والتعصب وضيق الصدر الناشىء من اختلاف الإجتهاد .. فهل تقبل ياأخ صبرى كلام ابن معين فى الشافعى رضى الله عنه ؟؟ وهل تقبل كلام أبى زرعه فى البخارى وقوله عنه أنه متروك الحديث ؟؟ وهل تقبل كلام الذهبى فى ابن حبان ، وكلام ابن أبى ذيب وابراهيم بن سعد فى مالك ابن أنس .. بل وهل تقبل كلام الصحابة بعضهم على بعض .. إذا ضـــللت ضلالا بعـــيدا وخسرت خسرانا مبينا .. أعاذنا الله وإياكم من الضلال والخسران المبين (..)

ثانيا : فإذا نظرنا إلى أسباب الجرح فى أبى حنيفة رحمه الله .. فسوف نجدها كلها مناقب وليست مثالب .. والأمة التى يصدمها اجتهادات إمام مثل الإمام أبى حنيفة هى بكل تأكيد أمة مريضة .. ورد بعض أحاديث الآحاد التى تتعارض مع أدلة أقوى منها .. هو ديدن جميع الفقهاء الأكابر .. لأن قبول جميع الأحاديث مع وجود تعارض بينها ينبىء عن خبل عقلى مؤكد .. وللإمام أبو حنيفة رحمه الله منهجا متينا فى قبول آحاديث الآحاد .. وقد لخصه الإمام الملا على القادرى (1014 ) فى كتابه مسند الإمام أبى حنيفة النعمان على النحو التالى :

1- قبول مرسلات الثقات إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها .

2- عرض أخبار الآحاد على الأصول المجتمعة عنده بعد استقرائه موارد الشرع فإذا خالف خبر الآحاد تلك الأصول يأخذ بالأصل عملا بأقوى الدليلين ، ويعد الخبر المخالف له شاذا وليس فى ذلك مخالفة للخبر الصحيح ، وإنما فيه مخالفة بدت علة فيه للمجتهد ، وصحة الخبر فرع خلوه من العلل القادحة .

3- عرض أخبار الآحاد على عمومات الكتاب وظواهره فإذا خالف الخبر عاما ظاهرا فى الكتاب أخذ بالكتاب وترك الخبر عمالا بأقوى الدليلين ، لأن الكتاب قطعى الثبوت وظواهره وعموماته قطعية الدلالة عنده .. أما إذا لم يخالف الخبر عاما أو ظاهرا فى الكتاب بل كان بيانا لمجمل فيه فيأخذ به حيث لادلالة فيه بدون بيان .

4- ومن أصوله فى الأخذ بخبر الآحاد " أن لايخالف السنة المشهورة سواء أكانت سنة فعلية أو قولية بأقوى الدليلين .

5- ومن أصوله أن لايعارض خبر مثله ، وعند التعارض يرجح أحد الخبرين على الآخر ، بوجوه ترجيح تختلف أنظار المجتهدين فيها ككون أحد الراويين فقيها أو أفقه بخلاف الآخر .

6- ومن أصوله أن لايعمل الراوى بخلاف خبره كحديث أبى هريرة فى غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ، فإنه مخالف لفتيا أبى هريرة فترك أبو حنيفة العمل به لتلك العلة .

7-ومن أصوله رد الزائد متنا كان أو سندا إلى الناقص احتياطا فى دين الله .

8- ومن أصوله : عدم الأخذ بخبر الآحاد فيما تعم به البلوى أى فيما يحتاج إليه الجميع حآجة متأكدة مع كثرة تكرره فلا يكون طريق ثبوت ذلك غير الشهرة أو التواتر ، ويدخل فى ذلك الحدود والكفارات التى تدرأ بالشبهة .

9- ومن أصوله أن لايترك أحد المختلفين فى الحكم من الصحابة الإحتجاج بالخبر الذى رواه أحدهم .

10- ومنها استمرار حفظ الراوى لمرويه من وقت التحمل إلى وقت الأداء من غير تخلل نسيان .

11- ومن أصوله عدم مخالفة الخبر للعمل المتوارث بين الصحابة والتابعين .

وبمقتضى هذه القواعد .. ترك الإمام أبو حنيفة رحمه الله العمل بأحاديث كثيرة من الآحاد .. والحق أنه لم يخالف الأحاديث عنادا ، بل خالفها اجتهادا لحجج واضحة ودلائل صالحة ، وله بتقدير الخطأ أجر ، ويتقدير الإصابة أجران .

فإذا أردنا أن نطبق تلك القواعد على بعض الأحاديث التى قال عنها صبرى الأشوح أن الأمام قد صدم مشاعر الأمة بعدم الأخذ بها .. مثل حديث (( لانكاح إلا بولي )) .. فسوف نجد مايلى :

أولا : أن أبا حنيفه رحمه الله لم يرفضه عنادا وحجودا .. وإنما لأن راوية الحديث ( السيدة عائشة رضى الله عنها ) .. قد زوجت ابنة أخيها حفصة بنت عبد الرحمن بن المنذر ابن الزبير وهو غائب فلما رجع قال أو مثلى يفتات عليه فى بناته فقالت عائشة رضى الله عنها أو ترغب عن المنذر والله لتملكنه أمرها وبهذا تبين أن مارووا من حديث عائشة رضى الله عنها غير صحيح فإن فتوى الراوى بخلاف الحديث دليل وهن الحديث ومدار ذلك الحديث على الزهرى وأنكره الزهرى وجوز النكاح بغير ولى .. ثم هو - كما قال الإمام السرخسى فى المبسوط - محمول على الأمة إذا زوجت نفسها بغير إذن مولاها أو على الصغيرة أو على المجنونة وكذلك سائر الأخبار التى رووا على هذا تحمل على بيان الندب أن المستحب أن لاتباشر المرأة العقد ولكن الولي هو الذى يزوجها .. ولكن هذا كله مقيد بزواج الكفؤ.. فإنهاى كما نص السرخسى إا زوجت نفسها من غير كفء فقد ألحقت الضرر بالأولياء فيثبت لهم حق الإعتراض لدفع الضرر عن أنفسهم (..)

وثانيا : لأن أبا حنيفة رضى الله عنه قد رأى أن الحديث يخالف ظاهر القرآن فى قوله تعالى : (( فلا جناح عليهن فيما فعلن فى أنفسهن )) وقوله تعالى : (( أن ينكحن أزواجهن )) فقد أضاف العقد إليهن (..) وليس هذا انتصار منى لمذهب أبى حنيفة رضى الله عنه .. ولكننى أردت فقط أن أبرىء ذمة الإمام من مخالفة الأحاديث جحودا .. كما أردت أن أنبه أن على اجتهاد الإمام كان سابقا لعصره .. وإنه مأجور عليه بإذن الله سواء كان صوابا أو خطأ فلا معنى للقول بعد ذلك بأن مثل هذا الإجتهاد الذى يقوم على أساس متين من الكتاب والسنة من الممكن أن يصدم مشاعر الأمة ؟؟

وأخيرا .. إذا كان الأخ صبرى الأشوح يستدل على تجريح الإمام أبى حنيفة بكون الإمام البخارى لم يذكر اسمه فى مصنفاته .. فهو كلام مردود لأن الإمام البخارى لم يروى ولا حديث واحد للإمام الشافعى فى صحيحه .. ولم يروى للإمام الجليل أحمد بن حنبل سوى حديثين اثنين فقط من بين أكثر من سبعة وعشرين ألف حديث رواها أحمد فى مسنده مع أنه كان شيخا للبخارى رحمهم الله جميعا .

والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته ،

بقلم : محمد شعبان الموجى
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق


الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *