المجتهد الحقيقى كما قلنا سابقا لايتلقف الآراء ثم يخبط بها خبط عشواء بغية الإنتصار لرأيه بالحق وبالباطل .. وإنما المجتهد الحقيقى هو الذى يمحص ويدقق فى الأدلة والبراهين التى بين يديه سواء التى تؤيد رأيه أو التى تخالفه لافرق .. وهذه المزية تعلمناها من سلفنا الصالح الذى كان لايترك من أدلة خصومه صغيرة ولا كبيرة إلا درسها وأخضعها للبحث المنزه من الغرض .. لأن الباحث عن الحقيقية لايضــــره إن جاء الحق على يديه أو على يدى خصومه (..)
ومنذ أكثر من تسع سنوات .. أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف فتوى خطيرة تفيد بأن السنة المطهرة لاتستقل بإثبات واجب أو تحريم محرم ، وقد تلقف تلك الفتوى بعض الذين فى قلوبهم مرض ، فتلقفها د. صبحى منصور فى كتاب له ينفى فيه حد الردة ، أثار لغطا ولغوا كبيرا فى الصحف والمجلات ، وتلقفه العلمانيون والشيوعيون بدورهم دون نظر أو دراية بغية هدم الجانب التشريعى والعقائدى فى الإسلام .. مع أننى قد تعقبت هذا الكتيب وكشفت مافيه من تناقضات وأخطاء لغوية وشرعية شنيعه .. ولكن ماذا نفعل مع أهل الهوى والغرض الذين لايكادون يفقهون قولا .. والفتوى التى نتحدث عنها تلقفها جمال البنا أخيرا وبعد اكثر من سبع سنوات وأودعها فى كتابه .. ( السنة ودورها فى الفقه الجديد ) .. تحت عنوان ( وشهد شاهد من أهلها ) ؟؟ ، ورغم ادعاء جمال البنا ود. صبحى منصور وغيرهما من أعداء السنة درجة الإجتهاد المطلق .. ورغم أنهما وغيرهما من منكرى السنة يسخرون ويزدرون أمثال البخارى ومسلم ، ويتهموننا دائما بالتقليد وتقديس القديم .. إلا أنهما قد نقلا تلك الفتوى بما فيها من أخطاء علمية وفقهية .. دون أن يكلف أحدا منهما نفسه عناء البحث والإجتهاد .. وصدق فيهم قول الله تعالى : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } !!
والآن تعالوا لنتعرف على الأخطاء العلمية الجسيمة التى اشتملت عليها تلك الفتوى التى سبق أن نبهنا عليها منذ سنوات دون أن يتحرك أحد من السادة العلماء الأفاضل لتصحيح ما جاء بتلك الفتوى .. ولكننا نكتب هذه المرة على آمل أن ينال الأمر اهتمام فضيلة المفتى لاسيما وأن الفتوى أصبحت سلاح بتار فى أيدى أعداء السنة وأعداء الدين
أولا : أخطاء فى ألف باء علم الأصول
تبدأ الفتوى بالخلط بين تعريفات الجمهور للأحكام التكليفية الخمسة ( وهى الواجب والحرام والمكروه والمندوب والمباح ) .. وبين تعريفات الأحناف لتلك الأحكام .. وذلك من أجل تبرير حكم فقهى مسبق .. تقول الفتوى : (( الواجب وهو مايثبت طلبه من المكلف بنص صريح قطعى الثبوت وقطعى الدلالة }} وهذا خطأ شنيع .. فالصحيح أن الجمهور لم يشترط قطعية الثبوت فى التحريم والإيجاب .. وإنما اشترطوا فقط قطعية الدلالة (..) يقول الشيخ العلامة محمد أبو زهرة فى كتابه أصول الفقه : (( الحرام هو ماطلب الشارع الكف عن فعله على وجه الحتم واللزوم عند الجمهور الذين لايفرقون بين دليل التحريم من حيث الحكم بالتحريم ، إذ أن الحكم بالتحريم يثبت بالحديث غير المتواتر والمشهور وحديث الآحاد وهو دليل ظنى (..) ، لأن الأدلة الظنية حجة فى العمل دون الإعتقاد وهذا على نظر الجمهور (..) ، والواجب عند الجمهور كماهو معروف فى كتب الأصول وكما سيتضح من كلامنا عن تعريف الأحناف .. ( هو ماطلب الشارع فعله على سبيل اللزوم والحتم ولو بدليل ظنى ) بل أغلب أدلة الواجبات كما هو معروف ظنية الثبوت !!
ولاحتى الأحناف يشترطون فى الواجب قطيعة الثبوت (..) لكنهم يفرقون بين ماثبت بدليل ظنى الثبوت وما ثبت بدليل قطعى فيسمونه فرضا (.. ) ، وكلاهما أى الفرض والواجب لازم .. يأثم تاركهما .. يقول العلامة أبو زهرة فى المصدر السابق : (( وأن الحنفية كما ذكرنا لايعتبرون الفرض مرادفا للواجب شرعا ، وإن كان يرادفه فى بعض مدلولاته لغة ، وذلك لأن الحنفية يتفقون مع الجمهور فى أن الفرض والواجب كلاهما لازم بيد أن الفرض ثبت اللزوم فيه بدليل قطعى لاشبهة فيه ، والواجب ثبت اللزوم فيه بدليل ظنى فيه شبهه (..) ، وأن الفرق له اُثره وهو أن اللزوم فيه يكون أقل من اللزوم فى الفرض ، ولذلك قيل أنه إذا ترك الفرض فى فعل شرعى بطل الفعل بينما الذى الذى يترك الواجب يأثم ولكن فعله صحيح ، والأثر الثانى أن الفرض يكفر منكره بخلاف منكر الواجب )) .. فمن أين إذن جاءت اللجنة الموقرة بأن الواجب عند الجمهور أو حتى عند الأحناف .. لابد وأن يثبت بالدليل القطعى أى المتواتر ؟؟ هذا السؤال نتوجه به إلى فضيلة المفتى (..)
افتراء على الأحناف ؟؟
جاء فى الفتوى : ( وذهب الحنفية ومن تبعهم إلى أن السنة الأحادية لاتستقل بإثبات واجب أو محرم (..) سواء كان الواجب علميا أو عمليا وعليه فلا يكفر منكرها (..) وهذا أيضا خطأ فقد ذكرنا قبل ذلك أن الواجب عند الأحناف هو (( ماثبت بدليل قطعى الدلالة .. ظنى الثبوت .. يعنى عكس ماذكرت اللجنة تماما .. ثم إن الأحناف قد أثبتوا عشرات الأحكام العملية بأحاديث آحاد وكتبهم شاهدة على ذلك .. والسؤال الآن هو من أين جاءت اللجنة الموقرة بتلك الإفتراءات ولمصلحة من ؟؟
ثالثا: الكذب على الإمام الشاطبى ؟؟
تقول اللجنة فى فتواها : (( يرى الإمام الشاطبى فى كتابه ( الموافقات ) أن السنة لاتستقل بإثبات الواجب والمحرم .. لأن وظيفتها فقط تخصيص عآم القرآن وتقييد مطلقه وتفسير مجمله .. ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الأحادية ؟؟
وآسف إذا قلت أن هذه العبارة الأخيرة مدسوسة وغير صحيحة ولم ينطق بها الشاطبى .. وأقول مدسوسة لأن اللجنة تعمدت للأسف الشديد تكرارها أكثر من مرة رغم خطورتها .. ولو كانت اللجنة صادقة فى ذلك النقل .. لذكرت لنا فى أى سطر وفى أى صفحة أو قسم من أقسام الكتاب الخمسة ذكر فيها الشاطبى هذه العبارة ؟؟ كيف والشاطبى نفسه يصف منكرى السنة الأحادية بأنهم قوم لاخلاق لهم ، ويؤكد على ضرورة وجوب العمل بأخبار الآحاد .. حيث يقول بالحرف صفحة 17 الجزء الثالث :
(( والظن الراجع إلى أصل قطعى إعماله ظاهر ، وعليه عآمة أخبار الآحاد .. فإنها بيان للكتاب بقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } 44 النحل ومثل ذلك ما جاء فى الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج مما هو بيان لنص الكتاب وكذلك ما جاء من الأحاديث فى النهى عن جملة البيوع فى قوله تعالى { ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } 29 النساء إلى آخر أنواع البيانات المنقوله بالآحاد ؟؟))
والسؤال الآن إلى فضيلة المفتى لماذا إذن تعمدت اللجنة دس تلك العبارة التى تغير المعنى تماما ؟؟
تناقض وتخبط وهدم للسنة بالكلية ؟؟
تؤكد اللجنة فى موضع آخر من فتواها .. أن تخصيص عآم القرآن وتقييد مطلقه ، وتفسير مجمله لايكون إلا بالأحاديث المتواترة .. وتؤكد فى موضع آخر من نفس الفتوى .. أن الأحاديث المتواترة تكاد تكون غير معلومة ؟؟ وهو ما يعنى ببساطة شديدة .. أن السنة التى تخصص وتقيد وتفسر القرآن .. فى خبر كان .. لأنها ( تكاد تكون غير معلومة ) أى مجهولة .. والمجهول كما نعلم كالمعدوم .. وهى نتيـــجة خطيرة ليس لها إلا معنى واحد .. اسقاط وتعطيل العمل بالقرآن الكريم نفسه ؟؟
الشىء الثانى : الذى يدل على التناقض والتخبط .. أن اللجنة تصدر يوميا ومنذ عشرات السنين فتاوى فى كل فروع الدين .. تعتمد فى الإيجاب والتحريم على أحاديث آحاد استقلت بالحكم ولا أظن أن ذلك يحتاج إلى دليل ؟؟
حكم منكر السنة ؟؟
بقى فى النهاية أن نوضح لمن نقلوا تلك الفتوى بحسن نية ، ولمن تلقفوها بخبث طوية .. الرأى السديد فى حكم منكر السنة لعالم من علمائنا الأفذاذ .. وهو العلامة ابن رشد المالكى حيث يقسم الحكم إلأى أربعة أقسام على حسب طرق روايتها وموضوعها :
القسم الأول : سنة لايردها إلا كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل .. وهى مانقل بالتواتر فحصل العلم به ضرورة .. كتحريم الخمر وأن الصلوات خمس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالآذان وأن القبلة إلى الكعبة وما أشبه ذلك ؟؟
القسم الثانى : سنة لايردها إلا أهل الزيغ والزلل والتعطيل .. إذ أجمع أهل السنة على تصحيحها وتأويلها كنحو أحاديث الشفاعة ، والرؤية ، وعذاب القبر ، وما أشبه ذلك مما موضوعه اعتقاد ، ولم يكن متواترا فى سنده ، وأجمع أهل السنة على صحة الرواية وإن لم تبلغ مبلغ التواتر ؟؟
القسم الثالث : سنة توجب العلم والعمل ، وإن خالفها مخالفون من أهل السنة ، وذلك نحو الأحاديث فى المسح على الخفين لآنها مشهورة قد أخذت بها جماهير المسلمين ، والمخالفون قليلون ؟؟
القسم الرابع : سنة توجب العمل ، ولا توجب العلم وهى ما ينقله الثقة عن الثقة ، وهو كثير فى كل نوع من أنواع الشرائع ، والعمل به واجب ، وإن كان احتمال الكذب واردا مرجوحا ، ومثل ذلك .. الحكم بشهادة الشاهدين العدلين وإن كان كان الكذب والوهم جائزا عليهما فيما شهدا به ؟؟
وأخيرا نحن فى انتظار موقف حاسم من الأزهر الشريف ومن فضيلة مفتى الديار لتصحيح مثل تلك الفتوى التى قدمتها لجنة الفتوى منذ تسع سنوات هدية عظيمة لأعداء السنة والدين كى ينالوا من المصدر الأساسى لفهم القرآن ومعرفة أحكامه ، ويهدموا المصدر الثانى للتشريع .. مما يبطل الديانة ويعطل العبادة ويفسد المعاملة ومازالوا حتى يومنا هذا يشهرونها فى وجوهنا .. نقول لهؤلاء جميعا : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم }
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
بقلم : محمد شعبان الموجى
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق