الإسلام السياسى خصوصية خاطئة .....( 3 )






^ قبل أن أشرع فى الحديث عن الخصوصية الفكرية الخاطئة للإسلام السياسى .. أود أن ألفت النظر إلى تلك البكائية التى نشرتها صفحة الرأى فى الأحرار الأحد الماضى و التى سكب فيها الأستاذ منتصر الزيات أنهارا من الدموع المخلوطة بالدماء بحثا عن وطن يقيم فيه الصلاة ويتدبر فيه عظمة الكون والمخلوقات فىالبرية .. وطن لايتهم فيه بأنه باع القضية ؟؟ .. ويكاد الأستاذ الزيات أن يكفر بالحكومات والجماعات .. ولايبقى إلا إيمانه فقط بالله الواحد القهار .. ويتمنى كما يقول سيادته أن يعيش كما لو كان قطة أو كلبا .. وأنه من الآن فصاعدا .. سيحترم نفسه ولن يعتد بفكره لأن الحكومات والنقابات والأحزاب لاتحترم أفكار أحد .. ويعترف بأنه قد عرض نفسه على أرباب الأعمال بأبخس الأثمان .. ويعتبر أن هذا بمثابة إعلان غير مدفوع الأجر !! 

^ وخطورة هذا الإعلان المجانى .. لاتكمن فى مواطن يبحث عن دور أو عمل سواء بأغلى الأثمان أو بأبخسها .. ولا فى محام يرضى بالعيش عزيزا كالأسد أو الصقر .. أو ذليلا مثل القطط والكلاب بلا فكر ولا رأى ولا هوية .. فهو حر فى ذلك بكل تأكيد .. وهو حر أيضا فى أن ينتظر المهدى المنتظرليقاتل معه .. وهو حر فى أن يكتب مثل هذه البكائية على سبيل الحقيقة .. أو على سبيل المجاز مثل اخواننا الشعراء و المبدعين .. كل هذا لايهمنا من قريب أو بعيد .. لكن المشكلة الحقيقية أن كاتب هذه البكائية أو المرثية .. محام إسلامى ورمز من رموز الجماعات الإسلامية على اعتبار أنه متخصص فى الدفاع عن قضايا العنف وصاحب وساطات ومبادرات سياسية ومواقف نقابية والناطق باسم قادة تلك الجماعات المحبوسين فى السجون المصرية .. والخطورة الحقيقة فى بكائية الأستاذ الزيات أنها تعبر بوضوح عن الخصوصية الفكرية الخاطئة التى قامت عليها ظاهرة الإسلام السياسى التى أثرت على شكل التدين وكان لها تأثيرها الضار على مسار الدعوة إلى الله على النحو الذى سنراه بعد قليل !! 

^ فالقضية عند الإستاذ الزيات .. ليست فى إقامة الدين والدعوة إلى التوحيد وممارسة وظيفة الأنبياء والرسل والدعوة إلى إصلاح النفس ومقاومة الشيطان والإنخلاع من زينة الحياة الدنيا والإستعداد لليوم الآخر .. ولكن القضية الأساسية واخشى أن تكون الوحيدة عند الأستاذ الزيات هى أن يتمكن من ممارسة السياسة ودخول البرلمان والتعبد فى محراب النقابات .. بحيث أنه إذا منع من ممارسة السياسة ودخول البرلمان والجهاد المقدس ضد الحارس القضائى فإنه يستشعر حينئذ أنه أصبح انسانا بلا قضية ولا هوية ولامعنى لحياته كلها حتى أنه يتمنى حينئذ أن يعيش كالقطط أو الكلاب .. ‍!! 

^ هذا بالضبط هو الخطأ الجوهرى لظاهرة الإسلام السياسى .. أى الفكر الذى لايرى صاحبه أى معنى للإيمان والعقيدة والعبادة والتقوى إذا منع من ممارسة السياسة أو دخول البرلمان والنقابات وغيرها .. أو السيطرة على مقاليد الحكم وإقامة الحكومة المؤمنة وإقالة الحكومة الكافرة .. هذه هى للأسف الشديد النفسية التى تحكم أكثر المنتمين للحركة الإسلامية ، أو المهمومين بقضايا الدين الإسلامى ، وهى النفسية التى جعلتنا نقبل على كتابات وأفكار الأستاذ المودودى .. ونهمل عن قصد وعن غير قصد كتابات وحيد الدين خآن والندوى فى تصديهم لفكر الإسلام السياسى ، الذى كاد بالفعل أن يقضى على كثير من علوم الدين ومعالمه ومقاصده وأهدافه كما وردت صريحة ومباشرة فى القرآن الكريم .. حتى أننا أصبحنا بالفعل فى حآجة إلى تكرار الصيحة التى أطلقها أبو حامد الغزالى لإعادة إحياء علوم الدين ، ولو أن أى أنسان طالع مجرد مطالعة عناوين ماكتبه أبو حامد الغزالى فى كتابه إحياء علوم الدين فسوف يدرك تماما عمق الإنحراف الفكرى الذى أحدثته ظاهرة الإسلام السياسى !! 

^ إن ظاهرة الإسلام السياسى تقوم كما يقول المفكر الهندى وحيد الدين خآن على محاولة ربط جميع تعاليم الدين وأحكامه فى ضوء ( حكمة جامعة ) وهى فكرة النظام أو الحكومة الإلهية .. أو كما يقول الأستاذ المودودى رحمه الله : (( إن الإسلام هو نظام الحياة الذى يربط جميع قضايا الحياة الفردية والإجتماعية وما بعد الطبيعة ، وهو يعالج جميع تلك القضايا بما يطابق العقل والفطرة )) !! 


^ يقول وحيد الدين خآن ردا على ذلك : (( إنه ليس خطأ أن نقول أن الإسلام ( نظام للحياة ) ، ولكن رفع ( النظام ) حتى يصبح هو الجامع بين كل أجزاء الدين !! فذلك هو الخطأ بعينه ؟! )) 

(( إن الفكرة الجامعة لدى أنصار هذا الفكر هى أن ( النظام ) هو أصل المجموعة الدينية .. هذا بينما الأصل فى الدين هو كونه عنوان العلاقة بين العبد وربه .. إن الدين ليس محض نظام دستورى قانونى وسياسى على غرار سائر الأنظمة الدنيوية ، بل مظهر العلاقة النفسية للعبد مع الله )) !! 


(( إن الدين عند تنفيذه يشمل عناصر كثيرة ، يمكن أن يطلق على مجموعها بأنها - نظام للحياة - ولكن هذا مظهر من مظاهر الدين ، وحقيقة من حقائقه ، إنها حيثية إضافية من حيثيات الدين ولكنها ليست الحيثية الأساسية ؟! )) 


^ لقد جعلت هذه النظرة السياسية الخاطئة إلى الإسلام .. ( الحكومة ) أو ( النظام ) أو ( الوصول للسلطة ) .. هو محور التدين فى ظاهرة الإسلام السياسى .. فلم يعد بالإمكان فهم الإسلام إلا فى ضوء ( الحكومة المؤمنة ) .. وكانت النتيجة أن رجلا مثل الدكتور مورو الذى يرأس تحرير مجلة المختار الإسلامى .. يرى أن أكبر خطأ منهجى وقعت فيه جماعة مثل الإخوان المسلمين أنها اشتغلت بالدعوة إلى الله ؟؟؟ وتركت قضايا العمال والفلاحين وقضية التحرر الوطنى وتحرير فلسطين ؟؟ وأنه ينبغى عليها حتى تصحح موقفها بحيث لا تكون ( لادعاة ولا قضاة ) .. وهى نفس النتيجة التى أوصلت الأستاذ الزيات إلى أن يرضى بالعيش مثل القطط والكلاب كما يقول فى بكائية الأحد بالأحرار .. لالشىء إلا لأنه منع من ممارسة الحقوق السياسية والحزبية ودخول النقابات والبرلمان .؟؟ حتى أنه لم يعد يستطيع إقامة الصلاة ولا تدبر الكون والمخلوقات فى البرية بدون ممارسة السياسة والوصول إلى السلطة والحكومة .. وكأن ممارسة السياسة من شروط صحة الصلاة والتعبد فى البرية ؟؟ 


^ يقول وحيد الدين خآن شارحا تلك المفاهيم الخاطئة لظاهرة الإسلام السياسى : (( كانت النتيجة أن جميع أجزاء الدين قد ابتعدت عن أماكنها الحقيقية رغم وجودها فى هذا التفسير الجامع .. إن جميع أركان الإسلام أجزاء هذا التفسير ، ولكنها أجزاء تابعة ( للنظام ) )) .. أو للحكومة المؤمنة أو السلطة الإسلامية الحاكمة .. (( فالعقائد .. جزء من هذا التفسير لأنها ( الأسس الفكرية ) لنظام الحياة هذا ، والعبادات .. جزء من هذا التفسير لأنها منهاج التربية لإعداد رجال هذا النظام أو تلك الحكومة المرتقبة .. والأحكام الإسلامية حول السلوك الإجتماعى .. جزء من هذا التفسير لأنها ( القوانين الأخلاقية التى يراعيها رجال هذا النظام فى حياتهم الإجتماعية .. والحدود والقوانين جزء من هذا التفسير لأنها الأساس الحضارى التمدنى لهذا النظام أو تلك الحكومة .. والخلافة والإمارة جزء من هذا التفسير لأنها تعطى النظام صفة الإرادة القاهرة الرادعة ، وتمكنه من تنفيذ القوانين ؟؟ وكانت النتيجة لهذا التفسير الخاطىء .. أن برز الدين - بوصفه نظاما وحكومة وسلطة سياسية - بروزا عظيما فى خريطة هذا التفسير وتلك الظاهرة .. وأصبح جانبه الحقيقى - عبادة الله ومراقبته - فى غآية الضعف والإهمال ؟؟ )) 


^ وبناء على تلك الرؤية العظيمة التى كشف بها وحيد الدين خآن عن الخطأ الجوهرى فى ظاهرة الإسلام السياسى .. فإننا نستطيع أن نقرر أن فكر جماعات الإسلام السياسى قد غير كذلك من طبيعة وحجم الواجب الدينى المنوط بالسياسة .. تماما كما غير من طبيعة وحجم الواجب السياسى المنوط بالدين .. بل الأكثر من ذلك .. خلط أكثر المعنيين بدراسة الظاهرة بين الدورين .. دور السياسة فى الدين ودور الدين فى السياسة !! 

^ فأكثر ( الإسلاميين ) يعتبرون الدين هو عين السياسة ، كما يعتبرون السياسة هى عين الدين .. أو كما يقول أحدهم : (( إن سياستنا هى عين ديننا ، وديننا هى عين سياستنا ، ونحن نعمل فى سياستنا من أجل ديننا ؟؟ )) .. ردا على من قال : (( لادخل فى الدين بالسياسة ولا دخل للسياسة فى الدين .. ولاشك لأن كلا العبارتين خطأ .. فالسياسة حيثية خاجة عن جوهر الدين .. قد تظهر فى وقت ما ، وفى مكان ما ، إذا توافرت أسبابها وشروطها وانتفعت موانعها .. مثلها مثل أى واجب شرعى .. وقد تختفى من حياة المسلم فى وقت ما وفى مكان ما .. كما حدث مع أكثر الأنبياء والرسل والصالحين .. ابراهيم عليه السلام أبو الأنبياء .. لم يقم دولة ولاحكومة .. ومع ذلك لم يعتبر نفسه بلا قضية ولا هوية .. ولم يقل أنه بلا رأى ولا قضية .. ولم يصف نفسه بأنه يعيش كالهوام والدواب .. ولم يطلب وطنا ليقيم فيه الصلاة ويتدبر فى ملكوت الله .. ولم يرض لنفسه أن يعيش عيشة القطط والكلاب كما يتمنى لنفسه محامى الجماعات الإسلامية .. بل وصفه القرآن الكريم بأنه أمة وبأنه كان حنيفا مسلما ولم يك من المشركين .. وبأنه قد أدى رسالة الله على اكمل وجه .. أرأيتم الفرق بين الإسلام الحقيقى .. وبين الإسلام السياسى ؟؟ 

^ ونعود مرى اخرى إلى بيان طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة .. فالدين ( هو أقوى قاعدة فى صلاح سياسة الدنيا ، واستقامتها ، وأجدى الأمور نفعا فى انتظامها وسلامتها .. لأنه قاهر للسرائر ..زاجر للضمائر .. رقيب على النفوس فى خلواتها .. نصوح لها فى ملماتها ) .. فدور الدين فى السياسة - من ثم - دور أخلاقى لتقويم الراعى والرعية .. ودور توجيهى .. أوكما يصفه القرآن ذاته بأنه ميزان .. فالدين لايقدم برامج سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية بالمعنى السياسى والحزبى الشائع .. بل هو ميزان يتحاكم إليه أهل الإيمان فى شئون الحياة .. وفى كل نشاطاتهم الفكرية والأدبية والمادية والعلمية .. وفى كل ما تتوصل إليه عقول الساسة والمتخصصين كل فى مجال تخصصه .. من برامج واختراعات وابداعات .. سواء اكانت تلك البرامج والحلول والإبداعات مستوردة أو محلية .. لأنها فى النهاية انسانية .. فمهمة عالم الدين أو الجماعة الإسلامية ( بصفتها الدعوية ) أن تزن الجوانب الأخلاقية والمقاصد البشرية للبرامج والحلول والإختراعات والإ بداعات .. بالميزان الذى أنزله الله .. دون أن تتدخل فى الجانب التخصصى !! 

^ وأما الدور المنوط بالسياسة نحو الدين .. فحراسة الدين والدفاع عنه ودفع الأهواء عنه وحراسته من التبديل فيه وزجر من شذ عنه بارتداد أو بغى فيه بفساد !! 

هذه ببساطة شديدة طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة .. أما حينما نجعل من الدين عين السياسة .. والسياسة عين الدين .. ونخلط بين الجوهر وبين المظهر الخارجى .. فلا شك أن العلاقة حينئذ بين العبد وربه تصير علاقة سياسية كما يقول وحيد الدين خآن .. بدلا من علاقة الحب والذل والولاية والشوق وغيرها من المعانى التى تحدث عنها القرآن !! 

^ إن النبى صلى الله عليه وسلم مع كونه لم يمارس السياسة فى مكة .. وحينما حاصره قومه وآذوه .. لم يكتب بكائية ولم يتسول وطن .. ولم يرض لنفسه المهانة ولا الدونية .. بل وقف فى شموخ وعظمة وعزة و ثقة بالله تعالى لاحدود لها .. يشكو إليه حزنه ..ليس لأسباب شخصية أو لعدم تمكنه من ممارسه السياسة .. ولكن حزنا على توقف مسيرة الدعوة إلى الله ..وظنا منه صلى الله عليه وسلم .. فوات الدور الدينى والدعوى .. وتعطل وظيفته فى التبشير والنذير وتبليغ رسالة الله عزوجل .. ولذلك قال فى نهاية دعائه (( إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى )) .. وهكذا لم يكن همه ممارسة السياسة ولا دعى على نفسه بالهلاك والذل والدونية عندما منع من الحياة داخل مكة وليس من العمل السياسى وحده .. ولم يتمنى مثلما تمنى محامى الجماعات والمتحدث باسمهم أن يعيش مثل القطط والكلاب .. ويكاد أن يكفر بالحكومات والجماعات ولايبقى له إلا الإيمان بالله الواحد القهار .. وهل يخسر المؤمن يامحامى الجماعات .. كثيرا عندما يكفر بالجماعات والحكومات .. ولايبقى له إلا الإيمان بالله الواحد القهار .. وهل يستقيم مع مع هذا الإيمان بالله الواحد القهار أن يعيش المؤمن ذليلا كالقطط والكلاب .. هذا هو الفرق بين النفسية التى تحكم المؤمن بالإسلام الحقيقى ، والمؤمن بالإسلام السياسى !! 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، 

بقلم : محمد شعبان الموجى
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق


الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *