من المؤكد أن الكتاب والمفكرين الذين يستخدمون مصطلح (( الإسلام السياسى )) على إختلاف مشاربهم وأفكارهم .. إنما يتفقون تماما مع العنوان الذى تصدر مقال الأستاذ الدكتور / جابرقميحه فى جريدة الحقيقة الغراء 16 سبتمبر 2000 (( ديننا لايعرف الإسلام السياسى )) .. وهذا بالضبط هو ماأراد أن يقوله العلمانيون من منطلق إلحادى رافض لأى علاقة بين الدين والسياسة .. وهو ما يختلف اختلافا جذريا مع منطلقات تناول أو رفض بعض الكتاب والمفكرين الإسلاميين لظاهرة الإسلام السياسى التى تسيطر اليوم على سوق العمل الإسلامى للأسف الشديد .. لكن الجميع علمانيون وإسلاميون يرفضون ( ظاهرة الإسلام السياسى ) باعتبارها انحرفا عن الإسلام الحق كما ورد فى القرآن الكريم والسنة المطهرة وكما يفهمه كل فريق منهم .. فديننا لايعرف الإسلام السياسى .. كما لايعرف التشيع ولا الإعتزال ولا التعطيل ولا التشبيه ولا غير ذلك من المذاهب الهدامة .. لكن هذه الفرق موجوده ولها أتباعها وأدبياتها ، ومن هذا المنطلق نستعمل نحن مصطلح الإسلام السياسى .. بإعتباره مذهبا فكريا يعتنقه كثير الجماعات الإسلامية التى تسعى إلى استعادة الخلافة وإقامة الحكومة الإسلامية !!
وسبق أن قلنا مرارا وتكرارا أن ثمة فرقا كبيرا بين الإيمان بأن السياسة الشرعية واجب محورى من أهم واجبات الإسلام التى يتوقف على القيام به واجبات شرعية أخرى كثيره .. وبين ظاهرة الإسلام السياسى الذى لايرى فيها صاحبها أى معنى للإيمان والعقيدة والعبادة والتقوى إذا منع من ممارسة السياسة أو دخول البرلمان أو الإشتراك فى النقابات وغيرها .. أو السيطرة على مقاليد الحكم وإقامة الحكومة المؤمنة وإقالة الحكومة الكافرة .. لقد جعلت هذه النظرة السياسية الخاطئة للإسلام .. جعلت ( الحكومة ) أو ( النظام ) أو ( الوصول للسلطة بأى ثمن ) هو محور التدين فى ظل ظاهرة الإسلام السياسى التى لايعرفها ديننا .. فلم يعد بالإمكان فهم الإسلام إلا فى ضوء ( الممارسة السياسية ) .. وكانت النتيجة أن رجلا مثل الدكتور مورو الذى يرأس تحرير مجلة المختار الإسلامى .. يرى أن أكبر خطأ منهجى وقعت فيه جماعة الإخوان المسلمين أنها اشتغلت بالدعوة إلى الله ؟؟؟؟ وتركت قضايا العمال والفلاحين وقضية التحرر الوطنى وتحرير فلسطين ؟؟ وأنه ينبغى عليها أن تصحح موقفها بحيث لاتكون ( لادعاة ولا قضاة ) .. وهى نفس النتيجة التى أوصلت الأستاذ الزيات محامى الجماعات الإسلامية .. إلى أن يرضى بالعيش مثل القطط والكلاب كما يقول فى مقال نشرته الأحرار منذ عامين .. لا لشىء إلا لأنه منع من ممارسة الحقوق السياسية والحزبية ودخول النقابات والبرلمان ؟؟ حتى أنه لم يعد يستطيع إقامة الصلاة ولا تدبر الكون والمخلوقات فى البرية بدون ممارسة السياسة والوصول إلى السلطة والحكومة .. وكأن ممارسة السياسة من شروط صحة الصلاة والتعبد فى البرية ؟؟
وهى نفس النتيجة التى دفعت بالأستاذ والمفكر الكبير سليم العوا إلى أن يعترف بحقيقة مؤلمة للغآية .. وهى أن الناس الذين يصوتون لصالح التيار الإسلامى لايصوتون إلا لمصالحهم ؟؟ وأن القضية إذن هى ( البرنامج النافع والبرنامج غير النافع ) ؟؟ إذا نجحوا فى تنفيذه سيستمرون فى مواقعهم بالنجاح الحر ، وإذا أخفقوا سيسقطون ) !!
و لاشك أن قيام الفرد المسلم أو الجماعة الإسلامية بتنفيذ برامج نافعة .. أمر قد ندب إليه الإسلام وحث القرآن الكريم صراحة على ضرورة القيام به مصداقا لقوله تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان } .. لكن الخطأ كل الخطأ .. أن نتقدم للناس بالإسلام عن طريق معارض سلع معمرة أو شاليهات على الساحل الغربى أو عن طريق نظام طبى منخفض التكاليف إلى آخره .. بحيث تصير تلك البرامج النافعة هى الباعث أو الشرط أو الحيثية الأساسية للإلتحاق بكتيبة أهل الإيمان ، وبحزب الله وإقامة الدين وبناء علاقة حب وذل لله ، وترسيخ الإيمان بالآخرة والزهد فى زينة الحياة الدنيا !!
إن هذا الخطأ الجوهرى فى خطة الدعوة .. سيحول الناس تلقائيا وبدون أن ندرى إلى ( مؤلفة قلوبهم ) .. سيصير الإسلام مذهبا دنيويا نفعيا .. { إن اعطوا منها رضو ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } .. يختفى المطلوب القرآنى المباشر ، ويحل محله مطلوبات غير مباشرة أو كما يقول وحيد الدين خآن : (( يبرز هذا الدين بوصفه نظاما دنيويا يروزا عظيما فى خريطة هذا التفسير ، ويصبح جانبه الحقيقى - مراقبة الله وخشيته - فى غآية الضعف والإهمال ؟!! )
إن جماعات الإسلام السياسى لم تعد قادرة للأسف الشديد - بعد تبنى السياسة النفعية أو البرامج النافعة كحيثية أساسية - على تقديم جوهر الدين وحقيقة اليوم الآخر كحقيقة مطلقة كما جاءت على لسان الرسل والأنبياء عليهم السلام .. لقد علمنا القرآن الكريم أن الإيمان والإلتزام بتلك العقيدة يجب ألا يتوقف على أى نفع مادى وإلا صار إيمانا زائفا لاقيمة له .. إن الإيمان بالله حقيقة مطلقة وقيمة ذاتية .. قد يصحبه خير ومنافع دنيوية .. لكنه فى الوقت ذاته قد يجر على المؤمن الكثير والكثير من الفتن والمتاعب والإبتلاءات .. بل هذا هو الراجح !!
ثم لنفترض أن ثمة جماعة يهودية أو نصرانية أو بوذية أو شيوعية أو علمانية نافست التيار الإسلامى فى النقابات والأحزاب والجامعات والهيئات والمؤسسات فى تقديم خدمات طبيه أفضل وأرخص .. أو شاليهات أوسع و أرخص وأقرب إلى سيف الشاطىء أو قدمت لهم تخفيضات أكثر للسلع المعمرة .. فهل معنى ذلك ووفقا لماذهب إليه الدكتور العوا وجماعات الإسلام السياسى أن ينصرف الناس عن الإسلام ليصبحوا نصارى أو يهود أو مجوس أو شيوعيين أو علمانيين !!
نفس الشىء ينطبق على الدعوة الفكرية الخاطئة والتى يتبناها الأستاذ فهمى هويدى وسليم العوا وأبو المجد وغيرهم .. حينما يقدموا الإسلام للناس على أنه ( مشروع حضارى ) ؟؟؟ أو ( مجتمع مدنى تمدينى ) ؟؟
وليس خطأ أن ينجح المسلمون فى وقت ما وفى مكان ما .. فى تحقيق حضارة مادية و تقدم علمى فى سائر المجالات على أسس إسلامية ، أو تنظيم مجتمع إسلامى على أسس مدنية بحيث تحكمه المؤسسات المختلفة التى تحول بينه وبين الظلم والبطش والإستبداد .. كل ذلك جميل وعظيم و مثلهم فى ذلك مثل كآفة الأمم والشعوب الأخرى !!
لكن تقديم الإسلام للناس على أنه فى الأصل وفى المطلوب القرآنى المباشر ( مشروع حضارى ) ، وعلى اعتبار أن هذا المشروع الحضارى أو ذلك المجتمع المدنى هو الحيثية الأساسية للدين .. وهو الحيثية المفسرة والمهيمنة على كل أجزاء الدين .. فهذا هو الخطأ بعينه !!
الحيثية الأساسية للدين والتى لن نمل من تكرارها .. هى إقامة علاقة نفسية مباشرة مع الله ، وترسيخ مفاهيم الآخرة والإنخلاع من زينة الحياة الدنيا .. أما إقامة ( المشروع الحضارى ) ، و( المجتمع المدنى ) فكما قلنا حيثيات إضافية .. قد تتحقق فى دنيا المسلمين .. وقد تختفى لأسباب خارجة عن إرادة أهل الإيمان .. ومع اختفائها فإن ذلك يجب ألا يؤثر على حقيقة ايمان المؤمنين وعلى ضرورة القيام بواجب الدعوة إلى الله .. أما رفع ( المجتمع المدنى ) و ( المشروع الحضارى ) أو تقديم برامج دنيوية نافعة كحيثية أساسية للدخول فى دين الله أو الإلتزام بمظاهره الخارجية .. فهذا من شأنه أن يكرس مفاهيم حب الدنيا والعمل من أجلها وحدها والتعامل مع العباد بالفلسفة النفعية .. ومن شأنه كذلك أن يصرف الناس عن معايشة عقيدة اليوم الآخر .. ومخالفة حقائق القرآن الكريم التى تؤكد على أن الدنيا متاع الغرور .. وتجعل من الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا .. وتصبح مثل تلك النصوص لاقيمة لها فى حياة المسلمين لاسيما أمام العروض المغرية لإمتلاك شاليه على الساحل الغربى أو امتلاك ثلاجة أو بوتاجاز أو شقة بنظام المرابحة ؟؟
ليس هذا فحسب .. بل لقد تحول أهل الدعوة أو المخاطبين بالدعوة فى ظل هذا ( الإسلام السياسى ) أوالمشروع الحضارى .. إلى هدف انتخابى بدلا من كونهم هدفا للهداية .. أو كما يقول وحيد الدين خآن (( المتأثرون بهذا التفسير ينظرون إلى مخاطبيهم بمنظار أصحاب المنظمات السياسية والإقتصادية الأخرى .. فيهتمون بالتأثير على الرأى العآم واستقطاب الأنصار .. أكثر من اهتمامهم بهداية الناس إلى الصراط المستقيم ، وغآيتهم فى ذلك .. الفوز بأكبر قدر من الأصوات فى هذا العصر الديمقراطى ، وبهذا يكون المسلم وغير المسلم فى نظرهم سواء )) ، وهذا هو الطعم الحقيقى الذى شربه كثير من العاملين فى حقل الدعوة !!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
بقلم : محمد شعبان الموجى
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق